هل مررتَ يومًا بإحساس أنك اتخذت قرار الشراء عن قناعة تامة… ثم لاحقًا تساءلت: “أنا ليه اشتريت ده أصلاً؟”
ربما تظن أنك تفكّر بعقلانية، توازن بين الخيارات، وتقيّم الأفضل بعين ناقدة.
لكن الحقيقة؟
عقلك لم يعمل بهذه الطريقة. على الأقل أحياناً.
مرحبًا بك في عالم التحيزات المعرفية في التسويق؛ عالم يكشف كيف نُخدع بأدوات داخل رؤوسنا، قبل أن يخدعنا المسوّقون أنفسهم.
ما المقصود بالتحيزات المعرفية؟
التحيزات المعرفية (Cognitive Biases) هي أنماط تفكير مختصرة وغير دقيقة يستخدمها الدماغ لتفسير العالم واتخاذ القرارات بسرعة.
هي “طرق مختصرة ذهنية” (Heuristics) نحتاجها لتوفير الجهد… لكنها أحيانًا تؤدي بنا إلى قرارات خاطئة، خاصة في مواقف الشراء والاختيار.
علم النفس يُقسم هذه التحيزات إلى عشرات الأنواع، لكن التسويق يعرف كيف يستغل أكثرها تأثيرًا بدقة مدهشة.
لماذا يستخدم العقل التحيزات؟
العقل البشري يواجه يوميًا آلاف المثيرات والمعلومات، ومن غير الممكن أن يُحلّل كل شيء بمنطق بارد.
ولذلك، يعتمد على “نظام 1” في نظرية المعالجة المزدوجة (Dual Process Theory) — التي ذكرناها في المقال السابق : الإقناع اللاواعي . رابط المقال ذلك الجزء السريع، الحدسي، العاطفي، الذي يُقرّر قبل أن نفكّر.
المسوّق الذكي يخاطب هذا النظام، ويوجّه الرسائل بحيث تتغلغل في لا وعينا، وتزرع قناعة دون نقاش طويل.
أشهر التحيزات المعرفية التي يستغلها التسويق
هنا نكشف أهم التحيزات التي يستخدمها التسويق بذكاء:
1– تأثير الندرة (Scarcity Bias)
عندما تقرأ “العرض ساري لمدة محدودة” أو “بقي منتجان فقط”، يشتعل في داخلك شعور بالفقد المحتمل، حتى لو لم تكن بحاجة فعلية للمنتج.
هذا التحيّز يجعلنا نقيّم الشيء بأنه أكثر قيمة حين يكون نادرًا، رغم أن ندرته قد تكون مصطنعة تمامًا.
2– الانحياز للتأكيد (Confirmation Bias)
عندما نرغب في شراء شيء، نميل للبحث عن المعلومات التي تؤكد رغبتنا، ونتجاهل الأدلة المعارضة.
مثل أن تقرأ فقط تقييمات إيجابية لمنتج وتتجاهل السلبية، لأنك “أُعجبت به مسبقًا”.
المسوّقون يعرفون هذا جيدًا، فيُظهرون لك المحتوى المؤيد لرغبتك، ويغذّون التحيّز داخلك.
3– تأثير الإرساء (Anchoring Effect)
عندما يُعرض عليك منتج بسعر مرتفع أولًا، ثم يُقدّم لك عرض “أقل”، تشعر أنه صفقة رابحة… رغم أن السعر الثاني قد يكون مرتفعًا أيضًا.
هذا التحيّز يخلق “مرساة” ذهنية في ذهنك، تُقارن بها كل الخيارات لاحقًا، مهما كانت غير منطقية.
4– التحيّز للتوفر (Availability Bias)
نميل للاعتقاد أن الشيء الأكثر حضورًا في ذاكرتنا هو الأكثر شيوعًا أو صحة.
لذلك تكرار إعلان معين يجعلنا نثق به أكثر، حتى لو لم نقدّم عليه دليلًا موضوعيًا.
وهنا يظهر دور الإعلانات المتكررة، والشعارات القصيرة، والمحتوى المُعاد بكثرة.
5– تحيّز التكلفة الغارقة (Sunk Cost Fallacy)
“أنا دفعت فلوس في المنتج ده… لازم أكمّل معاه!”
هذا التحيز يدفعك للاستمرار في قرار غير مربح فقط لأنك استثمرت فيه بالفعل.
وهو ما تستغله بعض الاشتراكات أو البرامج المدفوعة طويلة الأجل.
كيف يستخدم التسويق هذه التحيزات؟
المسوّقون لا يخترعون قراراتك، بل يعيدون توجيه آلية اتخاذ القرار داخل عقلك.
على سبيل المثال:
- المتاجر الإلكترونية تعرض أولًا منتجًا غاليًا لتؤسّس مرساة سعرية.
- الإعلانات تستثمر في التكرار لضمان توفر الفكرة في ذهنك.
- الرسائل التسويقية تُصمّم لتؤكّد ما تميل إلى تصديقه أصلًا.
والنتيجة؟
أنت تظن أنك اخترت بعقل صافي بينما الحقيقة أنك كنت ضحية تحيّزات معرفية تعمل في الخلفية.
هل التحيزات دائمًا سلبية؟
ليس بالضرورة.
التحيزات المعرفية ليست “أخطاء” بقدر ما هي آليات نفسية لتقليل الجهد المعرفي.
لكن المشكلة تحدث عندما يُستغل ذلك بطريقة غير أخلاقية، كخلق شعور زائف بالاستعجال، أو حجب المعلومات المعاكسة، أو التلاعب بثقة العميل دون مبرر حقيقي.
وهنا يظهر الفارق بين التسويق الأخلاقي والتسويق الاستغلالي.
كيف تحمي جمهورك وتستخدم التحيزات بذكاء؟
إن كنت رائد أعمال أو كاتب محتوى، فإليك نصائح للاستخدام المسؤول للانحيازات:
استخدم الندرة لتشجيع القرار، لكن لا تخلق شعورًا زائفًا.
قدّم تقييمات حقيقية… لا تُختر تقييمات مزيفة تعزّز تحيّز التأكيد.
لا تُسرف في الأسعار الأولى للمنتجات من أجل “الإرساء” فقط.
ذكّر جمهورك بمزايا منتجك دون تكرار مملّ يُشعرهم بالتلاعب.
التحيّزات يمكن أن تُستخدم لبناء ثقة وتأثير إيجابي… وليس فقط لدفع المبيعات.
اقرأ أيضا :الدوافع النفسية . من نفس السلسلة
خاتمة: العقل الذي يخدع صاحبه
التحيّزات المعرفية في التسويق ليست خرافة، بل حقيقة علمية تؤكد أننا لا نشتري بعقولنا وحدها.
نشتري بمزيج من الذكريات، المشاعر، الخوف، والأمل… وكلها تتأثر بعوامل لا ننتبه لها.
عندما تفهم هذه التحيزات، تصبح قادرًا على بناء رسائل أكثر تأثيرًا… وأكثر صدقًا.
جاهز لبدء مشروعك